* رحمة
في نفس الموعد، كان يداهمني ذلك المغص الرهيب فأجدُني أكابد الخَطوَ إلى البيت البعيد في أقصى المدينة.
كلما مَر بي أحدُهم وقرأَ علي السلام، تمنيتُ لو لم يقرأ السلام، حتى لا أتكلَّفَ الرد بسلام يملأه الأنين فأثيرُ فيه فضول السؤال.
بعد زمنٍ مريرٍ مشياً على الأقدام ، رمقَتني جارتنا فانتبهَت أنني أمسك بقوةٍ خاصِرتي لكنني لا أُمسِك زفير الألم الفاضح.
بادرتني: أَبِك وجع؟ حملقتُ فيها، وأجابها لسان حالي، حيث رأسي مُتدلٍ كغصن شجرة مكسور.
أردفَت بلسان العارف الماهر الحكيم : وجَعُك قديم، و شِفاؤك ليس بيد طبيب.
اِستدارت وأشارت إليَّ بِبَنانٍ بطيء، فسِرت خلفها وأنا أرجو أن تمنحني بعض الراحة مما أنا فيه، وأنفاسي تكاد تنقطع.
أمرَت ابنتها رحمة، فأحضرت فراشاً وماء ساخنا، وخرقة بيضاء وزيتاً، سعدتُ حين طلبت الفراش أولاً.
اِستلقيتُ على ظهري في باحة البيت الواسع، وأنا أتنفس الصعداء، مدَّت يدها إلى بطني، باسم الله، ولم تتوقف عن ترديد أذكار لم أميِّز منها سوى الصلاة والسلام على سيدنا محمد.
وهي تُحرِّك أصابعها بدقة العارِف فوق مَكمَن الوجع، أَستشعرُها تزيح عني ما يشبِه ركام الحجَر ، ماء ساخن، وزيت في الخِرقة الساخنة، وكلما دعكَت أحسستُ بسيلٍ جارف يسحلُني إلى نهر من النوم العميق. لا يصُدُّني عنه غير صوتها الشجي مرة بعد مرة، أه، أه أه. يا لطيف.
عمَّت جسدي راحة لم أعهدها منذ زمان، وبدافع الفضول رغبتُ في معرفة سبب ما ينتابني من وجع قديم، اِبتسمَت وقالت لي: سلامتُك، رحل الوجع، لن يطرق بابك بعد اليوم أبدا.
بصراحة لم أصدقها.
لكن صدَّقتُها حين نسيته ونسيتها منذ ذلك اليوم، حتى تناهى إليَّ خبر دخولها المشفى، وخروجها منه جثة هامدة إلى بيتها رحمها الله.
لقد تركَت وراءها جمهوراً عريضا كان يتردد عليها للاستشفاء على يديها. بلا ريال ولا درهم.
*******"""
٢١-للمسابقة
دَلِيل
السماء ملبدة بالغيوم ، الفراشات زاهية الألوان وناشطة في الطيران بين زهرة وأخرى متلذذة بالرحيق ، عكر صفائها أحدهم شاحب الوجه ، غائر العينين ، هزيل الجسد ، دلف لاهثاً يحمل بُقْجة من الخيش ينوء بحملها ، قام برميها على الأرض وتفقد سريعاً المكان بنظرات يتطاير منها الشرر ، كمن يخشى شيئاً ما ، تناول الكوريك الملقى على الأرض وبدأ بالحفر دون توقف يسابق الزمن ، طمرها وحرص على أن يبدو المكان كسابقه ووقف في مكانه هنيهة ، حين أنتبه لنفسه عاد من شروده ، مسح جبينه المتعرق بكم قميصه ، أزاح الغبار عن ثيابه ثم قفل عائدا حيث أتى ، بعد أن تأكد من ذهابه ، خرج من بين الأشجار الكثيفة ذاك الذي سبقه بالمجيء ليقطف الثمار خلسة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق