-( بقايا ذكريات )
جاء جدي الى الغرفة بقامته المنحنية وجلبابه المجعد، يبحث عن علبة التتن وورق اللف ، وهي علبة نحاسيه بحجم كف اليد يوضع فيها التتن وعلى غطاء العلبه من الداخل يرتب الورق الصغير بحجم السيكاره والخفيف جداً.
قلت له هناك يا جدي على تلك ( الصندقچة) أي الصندوق الخشبي المطعم برسومات
من قطع نحاس حجمه متر ارتفاعه نصف متر ، هو بمثابة خزانة لجدتي تضع فيها ملابسها وأشياؤها الخاصه الثمينة ، هو صندوق مقدس لا نجرؤ أن نفتحه حتى وان كان المفتاح مرمي على الطاولة عند انشغال جدتي في الحمام أو الصلاة. تناول جدي علبة التتن وبحث عن زناد النحاس الذي طالما فقده من جيبه
الزناد وأدواته الاحتياطية من فتيلة وحصوة التي تجعله يشتعل عند ضغطه ببساطه.
غضب جدي وشتمنا وهو يبحث عن ذلك الزناد، صاحت أختي الصغرى: هناك يا جدي إنه قريب من التلفزيون ،كان نظر جدي ضعيف ، يرتدي نظارة سميكة جداً بإطار أسود ، طالما لبسناها عندما ينام ويتركها خلف الوسادة.ركضت ومددت يدي لأخرج الزناد من تحت التلفزيون كانت المسافه لا تحوي أكثر من أصابع ، اخرجت الزناد وتناوله جدي بسرعة بتلك اليد المجعدة ذات الأصابع الموجعة تفوح منها رائحة التبغ المعتق بين طيات جلده العتيقة
خرج جدي وهو يتمتم بكلمات مليئة بالغضب ،لم يعد ذلك العجوز الصبور ، أصبح كثير التذمر ، كثير الشكوى والعنين .
إستنشقت الهواء مليء رئتي وأنا مغمضة العينين ونكهة ذلك المشهد لازال عالقاً في الركن البعيد من الذاكرة.
مات جدي، ولحقته جدتي، كبرَ كلُ من كان في ذلك البيت القديم، رحل من رحل، وسافر من سافر ، والبقية بعضهم تزوج وانتقل لدار آخر .
مرت تلك الذكرى في خاطري عند مروري من جانب بيت اجدادي واني مع ولدي في السيارة.
هاهو دار جدي يتهدم، طابوق الجدران والسقف يسقط محدثاً غبار متصاعد يكاد يملأ الشارع ، وقعت الشبابيك
لتأخذ من عمري عمراً .تألمت ، بقدر إشتياقي لجدي وجدتي. جيل يُسلم الأمانة لجيل ثانِ ، وتستمر الحياة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق