الثلاثاء، 11 أغسطس 2020

إلى السيد مشغول. القصة الفائزة بالمركز العاشر في مسابقة القصة القصيرة بقلم / جوليا دومنا

إلى السيد مشغول ..

     تطول بها الساعات وهي قصيرة..الانتظار شيء من العبث يترصد كالوحش المتحفز في تأهب مطّرد ..فيقض مضاجعنا ويزهق أرواحنا وتسوء به أحوالنا ..
هذه ليست ليلتي إنْ لم تحبوني المسرّة والهناء..هذه الحالكة بعد دهمها ..كانت تواسي نفسها وتناجي قمرها البعيد القريب..ربما كان مشغولاً ..أو أن حركة الأبراج والإشارات تعاكس حظوظها وهي في جزر متتالٍ دون مد..نعم هو مشغول حتماً مشغول..وكأنها حفظت عذرَه..وراحت تتذرّع به ..

    بقيت تتقلب طوال تلك الليلة الحالمة وقد جافاها النوم هارباً من أحلامها حتى..وكلها آذان صاغية تترقب رنين الجوال أو ربما نغمة يصدرها ملف الرسائل أو أية إشارة من وسيلة تواصل ما....عادته 
هي فائقة الجمال ..ممشوقة القوام وكأنّ جسدها عاجٌ لفّهُ الحرير والشفوف أو قطعٌ من مرمر..انتظمت بتناسق خلّاق..تضجُّ بالحياة والنشاط ..وتحفلُ بالألق..
الذكاءُ يشعُّ من عينيها المشبعتين بالخضرة ..أما شعرها الأشقر مائج  كالبحرِ الذي مازج الذهب ..

      ومنذ الصباح ما انفكت تتلقى التهاني والمعايدات من الأهل والأصحاب والطلاب ..فاليوم هو ميلادها الأربعين وما زادها تقدمُ السن إلا أنوثة وعذوبة وحلاوة.. صرت على يقين أن هذه السن هي للنضج والجمال مصبوغة بزبدة التجارب وخلاصة شتاءات أربعين مرّت على خدها النضير..
أحبّت الحفاوة كثيراً وأشرقت أكثر بالزهور وزخرف العبارات ..إلا من حبيبها الغائب ..الحاضر في قلبها ونبضها وروحها ..لم ينتبه بعد إلى يوم مولدها ..  وهو من أخبرها  أن أجمل الأيام في العمر هو ذاك الذي أقبلت على الحياة وضمّت زهور العمر في صدرها لتهبه الحياة له هو ..وتملأ قلبه بالسعادة والهناء.
لكن لم يكترث ..لم يتصل ..لم يرسل ..حتى أنه بخل برنّة واحدة لتكون لها الجرعة الشافية من داء اسمه العشق ..لتكون البرد السلام لنيران الشوق التي اشتعلت منذ حين..وما زالت في اتقاد متواصل كالجذوة التي لا تنطفئ ..
وفي كل مرة كنت أسألها..( حكا ) أي اتصل ..ترد بحرقة وغصة يا تعسَ قلبي..ما حكا..

_قالت ..إنها أختي سموحة الغالية أمي الثانية وتلك ابنتها الرائعة لمى .. أدخلت بهجة إلى قلبي وشعّ نور من حنين ..

_آ..إنها طالبتي الشاطرة حلا..ما أطيبها وما أحلاها ! تذكّرني بنفسي في سنّها ،ودأبها ومثابرتها وبحثها في أدق التفاصيل وهي من تجعلني أحضّر الدروس بمهارة أكثر لأحيط بأسئلتها التي لا تنتهي..

_آه يا أخي الغالي ..جعفر..في زحمة الحياة وضغط الحرب اللعينة الجاثم في صدورنا ..
هل تذكّرت عيد مولدي..؟ ما أغلى حروفك وما أعطرها!
هذا الأخ الحنون بقلبه الفل ..رجلٌ حقيقيٌّ في جيشنا القابع كشجرة السنديان ..الساهر على حدود الوطن ..ولم ينسَ الانتقام لأخويه الآفلين ..أحمد و زين  ..وقد سكبا دماءهما مهراقة على رهق الأرض الطيبة...ستزهر الحقول والزروع ..سنقطف القمر..

_لحظة..من؟ إنها صديقتي  لينا  ..التي شاركتني الغرفة في مدينة الرقة وقاسمتني أطياف الزمان بسنوات ثلاث مرّت كنومِ السهو ..لأن الأيام الجميلة تمر خاطفة كالبرق..نعم..كانت حروفها كدندنة العود ..

_ولكن ..هل سيمضي يومي دون أن أسمع صوت أختي الغالية ..كفاح ..؟ آه ... كفاح السيدة الجبارة القوية ..المتأنقة الجميلة وكأنها خرجت من زمن غير هذا الزمان الذي نحن ..أيضاً زوجها الشهيد ترك لها أزهاراً تعبق بالجمال الآسر والنشر الطيب...كفاح من تعطيني الأمل وتعلمني أن أحب نفسي و أن أتقن فن العيش في الحياة ..أعجبتني معايدتها..(كوني القوية ولا تهابي أحداً..ولتكن عينك في عين الله ..تحرسك.)

     في كل مرة كنت ألمح بريقاً في عينيها ..ودمعة ..ولم يتورد الخد بعد ..لم يتصل الحبيب..
تخيلوا أنّي بعثت لها رسالة تحمل سنابل قمح تتداخل مع أزهار برية برفقة حروفي ..أنت كسنابل القمح عطاءً  وقوة..لاتنكسر للعواصف ولكنها تنحني للنسيم ..
هل تعرفون كم تبعد عني في نفس الردهة؟  ههه..مترين أو ثلاثة أمتار..
لقد أصابتها الدهشة وانهالت  بسيل من ضحك ..ثم أجهشت بالبكاء..وعادت للضحك من جديد..وقالت..
يا لك من شقية..كان رشيقاً ما فعلت..ثم تابعت بتمتمة بالكاد تسمع .  أمري لحكم الله وقضائه ..ومضى الليل بأحزانه وأناته ..والذكريات كشريط يمر بألوان القدر ..
سألتها في اليوم التالي ..هل اتصل بك؟
لمعت عيناها هذه المرة ..وأشاحت نظرها إلى الأفق البعيد ..تستجديه بلقاء قريب يجمعها به 
ومن أين تطلب الحاجات إلا من رب السماء..لقد امتلأت الأرض جوراً وبلاء..وأصبحت الرغبات فيها مستحيلة إلا لحفنةٍ قليلة أحبّتْ الثراء و ما اعتادوا الأحلام كأمثالنا ..نحن عامة الناس ..
ومضيت في طريقي ..ولم يتصل ...
سأكمل لوحدي ..مع شلال من أمل وحياة وروح جديدة..
ولتهنئي أيتها الحرب اللعينة في سرقة أحلامنا ..فالحب في بلادي مرهون ..
لكن الشمس تشرق كل يوم وستشرق الليالي حتماً بنور القلوب والمحبة والسلام ..
هل يعجبك حالي أيها السيد مشغول ؟
*********************

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

التماس بقلم // صاحب ساجت

.              (إِلْتِماسٌ) يا سَطْوَةَ ٱلنَّفسِ؛ عَلىٰ أَهْلِها... أَنَا ٱلآنَ حُرٌّ، عَتِيقٌ، مُتَفَلِّتٌ مِنْ رِبْقِكِ لِفَضاءٍ آخَرٍ... ...