(صاحب جابر عجيل الشاهر)
و ديوانه اليتيم
{ أيُّها الوطنُ الشاعريُّ }
قراءة متأخرة...
مدخل :-
أنتهتْ اللقاءاتُ النهايةَ التي يعزُّعلينا ذكرها في لحظات الولوج في غياهب دنيا غير ما نحيا و ما نعرف. و ما يحزُّ في النفس هو: ما يترك أثرًا تقليديًا بلا مقدمات و لا إستعداد، لقبول ذلك الأثر المأساوي نهاية صفحات كنا نبارك أيامنا حين نتوه في كلمات اللاشعور التي تتراقص على شفاهنا. الكلمات التي كادت أن تكون لغتنا الوحيدة، و وعاء مشاعرنا و عواطفنا، ما أنفك يفيض بِها، دون سواها، ممّا هو في الحياة.
أنتهت صفحة {صاحب جابر الشاهر} نهاية شهر آب من عام 1982 بحادث مؤسف على طريق كركوك – بغداد. و بعد هذه السنين الطويلة، أحاولُ كتابة محطات بسيطة، من أجل العزاء و الذكرى، وفاءً و محبةً.
{1}
صاحب الشاهر لم يكن طفلًا اعتياديًا في أحاسيسه و تطلعاته بين أشقاءه الخمسة و بين أقرانه في القرية أو في المدرسة. شمخَ بعنفوانه الطفولي و عناده و طموحه، فاستقام فردًا بين منحنيات الريف و طيبة أهله. ممِّا حدى بالإسرة الانتقال إلى المدينة (كربلاء) لتهيّئَة مستلزمات دراسته و دراسة أشقاءه لاحقًا في اعدادية كربلاء للبنين، تاركةً أملاك و بساتين و فضاءات مفتوحة وراءها، و التحقت بركب المدينة و البيوت المتكدسة و الشوارع الضيقة و أبواق السيارات، روائح المشويات و المطبوخات ,الجرائد والكتب والمجلات، الوجوه النضرة و الأجساد الأنيقة، العلاقات و التعاملات المبطنة و المكشوفة.
عالم جديد يستهوي الكبير و الصغيرمعًا، عالم أخذ { الشاهر} إلى التأمل و الدراسة و دخول عوالم يتوجس البعض الاقتراب منها . بدأ بسليقته اللغوية يكتبُ معبرًا عن مكنونات أعماقه و خلجات نفسه. و سرعان ما راح ينْظِمُ و يقرضُ الشّعرَ مع أصدقاءهِ و زملاءهِ، بتشجيعٍ من مدرِّسيه و أهل الثقافة أمثال { شاكر البدري، جبار الخفاجي و محمد علي الخفاجي...و غيرهم}.
و في بغداد –تحديدًا جامعة بغداد ، كلية الاداب – في النصف الاول من سبعينات القرن الماضي أدركتهُ العاصمةُ بنشوتها و صخبها و قسوتها، و راحت تهدْهدهُ و تطوّح به، من شارع إلى آخر، بحيث عرفتهُ و ألفتهُ ساحات و أزقة و منتديات المدينة. بينما هو.. دارَ في كل ّحيٍّ و شارعٍ، وخَبَرَها شبرًا شبرًا، و توسّدَ أرصفتها و غازلَ بناياتها التي إستطالت توًّا و احتمى بفندقٍ أو دار طلبة أو بيت صديق من الجوع و الحرمان...
(أجيءُ الفنادق... إني اليفٌ
وإني لإبتلّ في صمتها
ليلةً... ليلتين... ثلاث...)
و بمقابل ذلك، نالَ ما حثّ الخُطى نحوه ُبإمكاناتهِ الذاتية و عبقريته ِالفتية، و تمكّن من المعرفة و التجربة و اللغة، و بنى جسورًا للعلاقات الانسانية و الثقافية قلًّ نظيرُها لدى زملاءه و أصدقاءه و أقرانه. و من هنا جاءتْ قصائدُه ُالــ {24 } باكورةَ أعماله التي ضمّها ديوانٌ يتيمٌ!
{ 2 }
بدأَ {ايها الوطن الشاعري} بقصيدة {سعادة} و انتهى بقصيدة { النداء}.. فهل هي مصادفة هذا التدرج في الصعود إلى مقتربات السماء البعيدة و الشعور بالسعادة؟
(ساعة العودة المستحبة
للبيت.. أشعرُ
إني سعيدٌ كما الأمنيات)
و هذا النزول إلى الدرك الاسفل، و الشعور بضيق عنق السعادة و النداء بصوتٍ عالٍ...
(وراء الخناجر يختبيءُ المجرمون
وراء القصائد يختبيءُ الشعراءُ لِمن يا صديق الأذى تنتمي
لمن يُسْلمُ العمرُ أغصانهُ
ضاقَ عنقُ السعادة...
ما عدْتُ طفلًا كما ينبغي)
و لم تكنْ مصادفةً إنتقال باقي قصائد الديوان من السعادة (المرفأ/الحلم) إلى نداء الأحياء و حثّهم - أو بالأحرى.. دَلّهم- إلى إنّ عنق السعادة يكادُ يضيق، و يخنق الأحياء.
حَملتْ معظم القصائد، طعم الطفولة و حليب الأم، و (العصافير التي تهمس في اذن النخلة)، المواعيد ُحافية القدمين، المجيءُ كالمستحيل، الوطنُ.. الرقبة، الوطن الشاعري، شجر التوهج و شجر التفاؤل. و أعطى درسًا للآتين في المشي على رؤوس الأصابع توجسًا، و كيف الانوثة تنزلق و تفاجيء العابرين الذين تعرّوا حولها.
بينما ليلى –الشاهر – نجدها مرةً تهزُ على جبهة الجسر أعطافها، و أخرى تخطُّ آراءها ثم تنأى! و هي ذاتها مقصلةٌ للبكاء، و مقصلةٌ للهموم الأليفة. و جسرُ الرصافة تضاءل حين عبرت و صاحَ (إسمحوا لي ! )
والشوارع تخاف على المارّين من رغبة الغناء، و ما غناءهم الاّ (صراخٌ بعيد...صراخ ٌقريب).
أضف إلى ذلك، الأَسرَّةُ التي يؤوبُ إليها، يصهلُ البَرْدُ فيها، و فوقها النوافذُ مغسولة بالتمني في حين زهرة النوم مغسولةً بالتسكع. و ما –للشاهر- الاّ الصنوبر حبيبًا لذيذَ الشفاه و اليدين، ليس للعناق.. بل للإتكاء عليه!
{ 3 }
هكذا أرى شاعرية- الشاهر- في إطار البحث الحثيث عن لذة الحياة في مفردات اليوم الواحد، بما يحمل من متاعب على أرصفة شوارع (الوطن الهودج) و على ابواب حدائق تغادر أسوارها عنوةً ويلفّها النسيان. أمّا الذي ياتي بعدهُ.. يحملُ معه بشرى إدامة الحياة، و يعطي زخمًا و بناءً هائلًا للاندفاع إلى اقتناص الفرصة تلو الأخرى و بناء جسور الوعي و الابداع في وطن (متى كبرت في عينيه الرجال.. بكى!).
و في الجانب الاخر.. الجداول و حلم الخبز و ظفائر الفتيات و شارع السعدون و الفقراء و الزمن يبادلون- الشاهر- التحية ويهزّون بجذع القصيدة حتى يسّاقط الألم الشاعري و يأذنون–للعالم – أن يمشي على قدمٍ و ساق دون توجّس أو خوف من عُسس الليل
المزروعين (على طول الخط).
( سيدي...
ما ارتضتنا القبيلة
لان العناق المؤدب صعب
و ان البراءة –يا سيدي-
مستحيلة )
{ 4 }
الاوراقُ مكدسةٌ، و القصائدُ المعدَّةُ للنشرِ مبعثرةٌ فيها. لدى الأهل و الأصدقاء، و في المجلات و النشريات المقروءة، أو في غيرها، أو لدى شخص أو شخصين لغرض مراجعتها، أو لغرض تعضيدها و دفعها للطبع.
و ربما اعدادها تجاوزت الديوانين – دون مغالاة- .و قد عمل كثيرًا ًبغية نشرها تحت الشمس لكنها أبتْ إلاّ ان تكون طي الكتمان و الضياع و التلف.. و ربما استخدمت خواطرها أو أفكارها أو حتى لغتها- بحسن نية، من قبل آخرين- سامحهم الله تعالى-
أو إحتفظوا بها . و حسبي إنّي لا أزعم ُذلك باطلًا و ها أنا أدّعي بذلك بعد ٣٨ سنة، ملزمًا لا مختارًا، بعد توافر وسيلة النشر لدي! و أملي عظيمٌ بالاصدقاء! أقولُ أملي كبيرٌ في مناشدتهم ليطلقوا القصائد التي في حوزتهم وفاءً لصديقهم و أداء لأمانةٍ رضوا إيداعها لديهم .
المحطة الاخيرة :-
قُلتُ...
الحياة ستكبر، و لم تزلْ صغيرةً مثلما قبضة اليد، كلّما امسكتُ بها أمطرت غيوم الصيف كذبًا
و عندما أُباعدُ مُقلتاي عنها و أُدخلها باب النسيان, يُشيرُ الوجودإليها، و تحملني دعوتها إلى ظلّ الذكريات، و يَستطيبُ لي ذلك!
الأحلامُ حبيبي...
في الأفق المتدلي من أعنان الأحلام نرحلُ، حياةٌ تتلوى
في الأمواج الآتية. تحملُ أعشاب القاع و الأسفُ المترسبُ فينا الأسفُ المتبقي في الرأس كالأضواء الصاخبة...
نزورُ القبرَ حبيبي
نرسمُ فوق القبرِ، أنهارًا
أوراقًا خضراء
رمادَ أحلامٍ
و حكاية َأبٍ متفاءل
دُمى، أثداءً ناضجةً
ضحكاتٍ، حلوى، أقلام طباشير
و صوت الزمن مكتومًا في الرّمل
نُطعمك العشبَ..
قلوبًا - إنْ أحببتَ حبيبي- لا تخشى عُسسَ الليل
لا تغفو
تقرصُ خديك كالأطفال،
تُنْسيك َحزنَ الارض
و بعيدًا...
بعيدًا عنكَ نكونُ حبيبي!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق