31-للمسابقة
هولوكوست بابلي
مومياء حية خَرجتُ من تحت التراب اركض بغير وعي، ممزق الثياب، لفافات تحنيط فرعونية تلف جسدي، ظلام دامس وليل موحش، ارض زراعية يملؤها القصب والبردي، غير أبه بجروح قدمي الحافية.
حشرجة الانفاس وتسارع النبضات، كادت تقتلني، هل رأني احد منهم حين هربت؟ ام انهم مشغولون بصخب الموت الذي كان يحوم حول رؤوسهم، وينتزعون تلك الارواح البريئة من أحشاء الحياة بعملية هوجاء لا تعرف الرحمة.
دموع الخوف والألم تركض معي وتسبقني بعض الأحيان لتسقي هذه الارض، التي زرعوها ببراعم الحقد والألم.
وصلت الى وجهتي قبل انبلاج فجر جديد في سمائي، اوقفت سيارة لرجل مسن، وعلى بُعد عشر امتار وقف وهو يتمعن بالنظر لشكلي وما انا عليه من التراب والدماء، رق قلبه لي حين رأني بهذه الحال:
-ماذا جرى يا ولدي.
-لا شيء يا عم.
-هل تصل الى بابل؟.
-أصعد.
هذه الأحداث التي جرت أيام الانتفاضة، مرت امامي وكأنها البارحة، حين سمعت خبر اكتشاف اول مقبرة جماعية بمدينة المحاويل في بابل، جهزت نفسي لأذهب اليها، وانا في طريقي للمكان الذي يحوي ذكرياتي، آلامي بل كل حياتي .
عشت يتيم الأهل في كنف عمي، واليوم بعد هذه السنين اكتشفوا هذا الأثر الدال على العنجهية والقسوة واللانسانية، انه الأثر الذي انتقم فيه خومبابا وشياطينه من گلگامش وانكيدو، اليوم الذي تهشمت فيه مسلة حموراي وقوانينها، فلا صوت يعلوعلى قانون الغاب في مدينة الحضارة والآمجاد .
بدأت تلك الأيام تمر أمام ناظري مرة اخرى كأنها شريط سينمائي، أحداث مأساوية لا يمكن تصديقها او استيعابها.
في ظلام الليل الحالك من أحد أيام شهر آذار، لم يكن في البيت غيري أنا، وأمي، وأختي ذات الخمسة أعوام وأخي الصغير ذو الستة اشهر،جميعنا في غرفة واحدة.
طُرقت الباب بقوة، استيقظت فزعا، ازدادت الطرقات، قمت لأفتحه، تسور الحائط رجل مسلح من أعضاء الحزب، فتح الباب للبقية دخلوا علينا، لممت أمي حجابها، أحسستُ بالانكسار يتسرب الى مفاصل روحها، بينما انظر الى أمي، واذا بصفعة قوية على وجهي! اسقطتني ارضا:
-اين أبوك؟.
صرخت أمي هرولت الي واحتضنتي ولاذت اختي الصغرى بعبائتها وهي ترتجف وتبكي، قالت لهم مع حشرجة بكاء وألم:
-لا نعلم لقد خرج منذ الصباح.
-لا تكذبي ايها السافلة.
وأراد ان يضربها بأخمس سلاحه، فوضعت يدها على رأسها.
-انا لا أكذب هذه الدار وفتشوها.
-هيا انهضوا ستذهبون معنا.
-هل من الأخلاق ان تعتقلوا الأطفال والنساء؟
- اصمتي وانهضي فورا انتِ والأطفال.
أمسكت امي بيدي، حملت طفلها الرضيع المتشبث برضاعته ، بينما تمسكت أختي الصغرى بكم عبائتها.
اصعدونا حافلة كبيرة فيها عوائل كثيرة، جلسنا لا نعرف مصيرنا، طوال الليل لم ننم لحظة واحدة، كلما وقفت الحافلة معتمة النوافذ، صعدت عائلة جديدة، من بينهم كبار السن لا يستطيعون المشي أو التحرك، امتلأت الحافلة ولم تعد تستوعب البشر الذين يصعدون اليها.
توقف ذلك الصندوق المتحرك الذي حشرونا فيه، وهذه المرة انزلوا الجميع في مكان مهجور، عبثا يحاولون إسكات الاطفال والنسوة لكن من يسمع الصراخ والنحيب؟ في تلك الأرض التي تضج بنقيق الضفادع، التي صمتت أيضا أمام ابتهالات النسوة ونشيج الأطفال، قال كبيرهم:
- كم وصل العدد؟
- حوالي سبعين سيدي.
-واين الرجال؟
-تم اعدامهم سيدي. شهقت امي وولولت النساء وضجت السماء من بكائهن!.
- انزلوهم بسرعة.
انزلونا بحفرة مليئة بالماء والقصب، أشار الى الناس وقال لهم:
-اصمتوا لنخرجكم بعد قليل، من يتكلم سنطلق عليه النار.
ظل الرعب يسري في أجسادنا وتعلو الى السماء أدعية الثكالى والأرامل، كل يتسأل اذا كان هنالك ذنب للرجال فما بال الاطفال والنساء نتحمل هذا العبئ وهذا الخوف.
في هذه الاثناء جاءت ماكنة ضخمة لم نعرفها الا حينما اقتربت منا إنها مجرفة ( شفل)! لا نرى منها سوى مصباحين كبيرين.
شعرت أمي بانهم سوف يقتلوننا وفي غفلة عنهم رمتني على حافة الحفرة، اختبأت بين اوراق القصب، بقيت ساكناً من دون حراك، انظر لتلك الأجساد وقد غطاها التراب بين صياح وعويل حين بدأ ذلك العملاق اللعين بوضع التراب على اجسادهم.
مَيزتُ صوت أمي عن باقي الاصوات وحتى صوت أختي والرضيع، كلما وضعت المجرفة كيلة من التراب قلت وتيرة الأصوات وهدأت الانفاس!
سحق ذلك الكائن العملاق فوق التراب ليغطي آثار الجريمة، هربتُ من ذلك الموت بأعجوبة لأكون الشاهد الوحيد على المجزرة، وتركت أُسرتي تدفن تحت التراب بلا حول ولا قوة.
واليوم أقف على هذه العظام المتشابكة، التي قُسمَ عليها الظلم بالتساوي، وكأن الجاهلية لم تمت فهي لا زالت تأد الأطفال بنفس العنجهية، بل انها وأدت النساء والشيوخ والأطفال بدون جرم اقترفته، فبأي ذنب قُتلتْ؟!.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق